مفاوضات غزة- مصيدة أمريكية أم صمود فلسطيني؟

على الرغم من التصريحات المفعمة بالأمل الصادرة عن المسؤولين الغربيين في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تتحدث عن قرب التوصل إلى هدنة في غزة خلال جولة المفاوضات الجديدة المنعقدة في القاهرة، إلا أن هذا التفاؤل يبدو في غير محله؛ ذلك أن هذه المفاوضات لا ترتكز على أسس راسخة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، بل هي مسعى للالتفاف على حركة حماس بهدف تحقيق مبتغيات الحرب التي تبددت على صخرة المقاومة والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، في مواجهة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها منذ ستة أشهر متتالية.
فكيف لنا أن نفهم هذه الجولات التفاوضية الماراثونية التي يقوم بها المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون في الدوحة والقاهرة؟ وهل ستذعن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لشروط حركة حماس؟ وما هي الدلالات الكامنة وراء ذلك؟ وما هي الانعكاسات المحتملة على أطراف الحرب الذين راهنوا على تصفية حماس؟
الولايات المتحدة هي شريك كامل للكيان الصهيوني في حرب الإبادة الشاملة التي تُشن على قطاع غزة، وهي تدافع عنه في كل ما يرتكبه من أفعال، وتؤكد باستمرار على "حقه" في الدفاع عن نفسه، ولم يصدر عنها حتى الآن أي فعل إدانة أو استنكار، خشية أن تدين نفسها بذلك.
المعطيات الجلية
تنشغل وسائل الإعلام والخبراء والمحللون والأوساط المعنية والمهتمة في هذه الأيام بتداول المعلومات والتصريحات التي تتحدث عن تصاعد حدة الخلاف بين قيادتي التحالف الصهيو-أمريكي، مجرمَي الحرب: الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو.
وقد بلغ مستوى الانشغال ذروته بالحديث عن ربط المساعدات الأميركية العسكرية المقبلة بمدى استجابة نتنياهو لمطالب الإدارة الأميركية بالتوقف عن العملية العسكرية المزمعة في رفح، والإسراع بإرسال الوفد الصهيوني للتفاوض على هدنة إنسانية، مع توسيع صلاحياته التفاوضية.
إلا أن هذا الانشغال يغفل، أو يتغافل، عن الحقائق الدامغة التي يقوم عليها الموقف الأميركي والغربي عمومًا، والتي تستوجب علينا ألا ننجرف وراء بعض المعلومات والتصريحات أو القرارات التي تنقلها وسائل الإعلام عن المسؤولين الغربيين، تحت ضغط الرأي العام، والحسابات السياسية الداخلية، وفي مقدمة هذه الحقائق:
- اعتبار الولايات المتحدة والدول الغربية أن حماس حركة إرهابية، يجب مواجهتها ومحاصرتها والقضاء عليها.
- توافق الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مع الكيان الصهيوني على هدف التخلص من حركة حماس، ومنع وجود أي كيان عسكري أو سياسي أو اجتماعي لها في المشهد الفلسطيني، في مرحلة ما بعد الحرب.
- اقتصار مطالبة الولايات المتحدة على وقف إطلاق نار إنساني مؤقت لمدة ستة أسابيع؛ بهدف إطلاق سراح الأسرى، وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة.
- عدم مطالبة الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى لرئيس وزراء الكيان الصهيوني بإلغاء عملية رفح، بل بتأجيلها حتى إجلاء المدنيين من ساحة المعركة، مع العلم أن الولايات المتحدة زودت الكيان الصهيوني مؤخرًا بكميات إضافية من القنابل والقذائف والطائرات وقطع الغيار، وما زالت تكرر باستمرار التزامها الثابت بالدفاع عن الكيان الصهيوني.
- كون الولايات المتحدة شريكًا كاملاً للكيان الصهيوني، وهي تدافع عنه في كل ما يرتكبه من جرائم حرب الإبادة الشاملة في قطاع غزة، وتؤكد دومًا على "حق" الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه. ولم يصدر عنها حتى الآن أي فعل إدانة أو تنديد أو استنكار، حتى فيما يتعلق بالمجازر الإنسانية المروعة ضد المدنيين والمستشفيات وأماكن إيواء النازحين، لأن ذلك سيضعها في موضع الإدانة.
- إذا كانت الولايات المتحدة جادة في فرض وقف إطلاق النار، لكانت قادرة على القيام بذلك فورًا، فهي الشريك الكامل للكيان الصهيوني في هذه الحرب، وهي تقود النظام العالمي، وعضو دائم العضوية في مجلس الأمن، وهي الطرف الوحيد الذي لا يزال يرفض التصويت على قرار بوقف دائم لإطلاق النار في غزة.
- إن الحديث المطول عن معركة رفح ليس سوى ستار لما يجري من ترتيبات صهيونية- أميركية- أوروبية- عربية على أرض الواقع، والتي لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت لإنجازها، مثل الرصيف العائم ومخيمات إيواء النازحين، والتقسيم الجاري لقطاع غزة.
إن التحركات التي تقوم بها الإدارة الأميركية، والتصريحات التي تصدر عنها، ليست سوى محاولة للتغطية على الحقائق أمام المجتمع الدولي، واسترضاء للناخبين المحليين، ومحاولة لإظهار الحرص على القيم الإنسانية.
الفخ!
إن المعطيات السابقة تكشف بجلاء أن التحركات التي تقوم بها الإدارة الأميركية، والتصريحات التي تصدر عنها، ما هي إلا ذر للرماد في العيون، ومحاولة لتجميل صورتها أمام المجتمع الدولي، واسترضاء للناخبين المحليين، وإظهار لحرصها الزائف على القيم الإنسانية. كما تحثنا هذه المعطيات على النظر إليها باعتبارها فخًا جديدًا يتم الإعداد له لتنفيذ مخططات المرحلة القادمة، وعلى رأسها:
- إطلاق سراح الأسرى لدى حماس، وإدخال المساعدات الإنسانية بصورة وصفها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأنهم يسعون إلى إغراق غزة بالمساعدات الإنسانية.
- إخلاء النازحين من رفح، وهي عملية لا تزال تكتنفها الكثير من الشكوك حول الأهداف الحقيقية الكامنة وراءها. فإذا كان الهدف من الإخلاء عسكريًا بحتًا، فلماذا لم يقم الكيان الصهيوني حتى الآن بإنشاء مخيمات إيواء مؤقتة على الساحل غرب مدينة رفح، أو في أراضيه على الشريط الحدودي الشرقي للمدينة؟ ولا أجد مبررًا لهذا التأخير سوى رغبة الكيان الصهيوني في أن يتم الإخلاء باتجاه الحدود المصرية.
- القضاء التام على حركة حماس والمقاومة المسلحة، وهو الهدف الذي يعتبر الإخفاق فيه هزيمة ساحقة للتحالف الصهيو-أميركي وحلفائه من الدول الأوروبية والعربية. لذلك، فإنهم يصرون على وقف إطلاق نار مؤقت؛ لأنهم يستعدون للمعركة القادمة، والتي يخططون لها لتكون المعركة الحاسمة ضد حماس.
ليس من المستبعد أن تكون القيادات العسكرية الأميركية والصهيونية قد انتهت بالفعل من وضع سيناريوهات هذه المعركة المرتقبة، ليس في رفح وحدها، بل في عموم قطاع غزة، وأنها ستعتمد على تكتيكات عسكرية جديدة تحقق لها الأهداف الرئيسية الثلاثة التالية:
- أولاً: القضاء على مقاتلي حماس في الأنفاق، بعد عزلهم عن المدنيين. ولعل العملية الجارية لتقسيم غزة إلى مناطق معزولة عن بعضها البعض تهدف إلى تسهيل تحقيق هذا الهدف.
- ثانيًا: التدمير الشامل لقطاع غزة؛ لتسهيل عملية إعادة تخطيطه وإعماره، لأنه لم يعد صالحًا للحياة، ويحتاج إلى ما لا يقل عن عشر سنوات ليصبح كذلك.
- ثالثًا: فتح الباب أمام الهجرة الطوعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بعد إجلائه ونقله إلى مخيمات الإيواء الجديدة بالقرب من الساحل.
بالطبع، يستطيع التحالف الصهيو-أميركي تحقيق هذه الأهداف الثلاثة في حالة واحدة فقط؛ وهي انهيار المقاومة وتحطيم صمود الشعب الفلسطيني. ولكن لا يبدو أن هذا السيناريو ممكن التحقق، بعد ستة أشهر متواصلة من البطولة والصمود والثبات، على الرغم من حرب الإبادة الجماعية الشاملة التي شنها التحالف ضد حماس والشعب الفلسطيني، في جميع المجالات العسكرية والإنسانية والاجتماعية.
لم تغلق حركة حماس الباب في وجه جولات المفاوضات غير المباشرة مع التحالف الصهيو-أميركي في القاهرة والدوحة، وما زالت متمسكة بشروطها الرئيسية، وهي: الوقف الدائم لإطلاق النار، والانسحاب الصهيوني الكامل من قطاع غزة، وهو ما لن يقبل به ممثلو التحالف الصهيو-أميركي في هذه المفاوضات، مما يعني فشل المفاوضات مرة أخرى.
فهل ستنتهي هذه الجولة بتنازل حماس عن هذين الشرطين والسقوط في الفخ؟ أم ستذعن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لشروط حماس؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين تعني الحسم بهزيمة طرف وانتصار الطرف الآخر، وهو ما يعزز احتمال فشل هذه الجولة من المفاوضات وعودة الشعب الفلسطيني إلى حراسة صموده، وعودة حماس إلى الميدان لمواصلة انتصاراتها.
